مُوسَى
ولم يَقُمْ بَعْدُ نَبِىٌّ في ِإسْرَائِيلَ مِثْلُ مُوسَى الَّذِي عَرَفَهُ الرَّبُّ وجْهاً لِوَجْهٍ
(تث34: 10)
بحث دراسى تم تقديمه فى مايو 2006 إلى
كلية اللاهوت الإنجيلية للكنائس الرسولية بالشرق الأوسط
فرع المنيا
وقدأُجْرِىَ بعض التعديل والتنسيق عن النسخة الأصلية وإضافة الصور والخرائط
الكنيسة الرسولية ببنى مزار بالمنيا©
www.rasolia.page.tl
مقدمة
لو تخيلنا أحد شباب الجامعة يقوم بقيادة رحلة علمية فى الصحراء لمدة شهر فقط لفريق من زملائه مكون من مائة فرد مثلاً, وكان عليه طوال مدة الرحلة أن يتكفَّل بتسهيل مهمة وعمل كل واحد منهم ويشارك كل فرد منهم فى أداء دوره, وأن يقوم بحمايتهم من أية أخطار مُتَوَقَّعَة, وأن يوفر لهم الإعالة والإعاشة, وأن يضع جميع الترتييبات التى تضمن العمل والحركة فى مجموعات بنظام دقيق. لو استطاع هذا القائد أن يتحمل هموم ومشاكل الجميع وعمل على حلها دون الإساءة إلى أحد, ولم يستأثر لنفسه بأية أفضلية عن الباقين بل ظل يخدم الجميع ويتحمل أعباء الرحلة الى نهايتها، وظل أميناً وحريصاً على كل من معه. ماذا سيكون رأى الآخرين فيه؟ بالطبع إنَّ مُجَرَّد أن نختبر فى شخصٍ ما هذا القدر من الكفاءة والبراعة وهذا العطاء والكرم نحو الآخرين فإنَّ أحداً من المحيطين به أو من يصله خبره لن يَنْسَىَ أو يتجاهل كمَّ التضحيات التى يُقَدِّمها وما يَبْذُلُه لأجل الآخرين, قائداً محباً بارعاً ومثالياً, سينال كل التبجيل والإحترام.
ما صنعه موسى فى تاريخ الشعب العبرى كان أكبر وأعظم من ذلك بكثير جداً.
موسى هو أقوى محرر شعب عرفه التاريخ؛ استطاع بعصاه وبدون أى سلاح أن يُرْعِب فِرْعَون الجبار وكهنته وسحرته, حتى أخرج الشعب المُسْتَعْبَد إتِّقَاءً لويل الضربات التى تتابعت عليهم عندما رفض إطلاق الشعب, فكلما راوغ فى تلبية الطلب ارتفعت العصا عليهم وانهالت ضربات العقاب, حتى استسلم فرعون للطلب بل بادر بطردهم. وبينما كان الجيش المصرى أقوى جيوش العالم وأفضلها نظاماً وأرقاها كفاءةً وتدريباً عسكرياً, أُبيدت غَرَقاً كل القوة التى طاردته ولم يَنْجُ منها أحد, بينما لم يهلك فرد واحد من الشعب الذى عبر به موسى البحر.
أعظم مُشَرِّع عرفه التاريخ, وقد فاق "حمورابى" عندما شرَّعَ شريعة وناموس الكمال, القانون الإلهى الذى لا يحيد عن الحق روحياً وأخلاقياً, ووضع مع الشريعة قوانين ونُظُم المعاملات التجارية والحقوقية, لتنظيم المجتمع بالعدل فى مخافة الله. وبينما نادت فلسفات مثل "التاوية" فى شرق آسيا بتحقير الفرد لإقرار سلطة الحاكم, وعلَّمَت بمبدأ "أفرغ عقول الناس واملأ بطونهم, أضعف إرادتهم وقوِّ عظامهم", جاء موسى ليُعَلِّم ما شرَّعَه الله فيقول "لا تكمّ ثوراً دارساً والفاعل مستحقٌ الأجر"(1كو9:9), (1تى5: 18).
أعظم نبى فى تاريخ علاقة الله بالإنسان, وفى تاريخ بنى اسرائيل شعب الأنبياء, حيث لم يقم فى إسرائيل نبىٌّ مثله عرفه الرب وجهاً لوجهٍ (تث34: 10).
أعظم قائد استطاع أن يقود أمة مكونة من حوالى مليونين ونصف تضم تشكيلة كاملة من مختلف الأعمار ومختلف الطباع البشرية, تَحْمِل أمتعتها وتجُرُّ دوابَّها ومواشيها؛ عبر بها البحر فى عمل إلهى معجزى فائق الإبهار, وسار بها فى البرية الجرداء أربعين سنة, واستطاع تدبير جميع إحتياجاتها, وأرسى لها قواعد ونُظم تكفى لإستمرار كيانها وإستقرار حياتها.
أعظم رجل دولة وأب للشعب حتى منذ قبل تكوين أية دولة لبنى اسرائيل, فلن يرى اليهود أباً لهم كما كان موسى الذى آثر أن يرعى شئونهم بكل إخلاص وأن يتشفع عنهم أمام الله, فوقف يطلب لشعبه الخاطئ صفح الله عندما أخبره الرب أنه سيُفنى هذا الشعب المتمرد وأنه سيقيم منه هو شعباً بديلاً, وقد ربطه بوجوده قائلا "وإلاَّ فامحنى من كتابِك الذى كتبت" (خر32:32), ولم يهدأ له بال حتى صَفَحَ الرَّبُّ وتَأنَّى. ثم عاد يتشفع أيضاً فيهم عندما أغضبوا الرب مرة أخرى ورفضوا مواجهة العمالقة والكنعانيين, فقال الرب "إني أضربهم بالوبا وأبيدهم وأصيرك شعباً أكبر وأعظم منهم ... فقال موسى للرب ... إصفح عن ذنب هذا الشعب كعظمة نعمتك و كما غفرت لهذا الشعب من مصر الى ههنا" (عد14: 11-19).
أوَّل من كتب إعلان إلهى عن بدء الخليقة وكيف بدأ الكون وكيف وُجِدَ الإنسان وكيف دخلت الخطية إلى العالم. وهو الذى سَجَّل أول وعد بالخلاص بأنَّ نسل المرأة يسحق رأس الحية, وسَجَّلَ أول ذبيحة فى تاريخ الوجود وقد كانت بواسطة الله نفسه عندما صنع أقمصة الجلد لآدم وحواء لستر عورة خطيتهما, فى سفر التكوين, ثم إعلانات الحق الإلهى المتتابعة فى باقى الأسفار الخمسة.
الرجل الذى صار حدّاً بين عصر ما قبل الناموس- إذ كان الإنسان ناموساً لنفسه - وعصر الناموس الذى وضع الضوابط لكل معاملات الله مع الإنسان, واقترن الناموس باسمه فيقال "ناموس موسى". وهوالرجل الذى إنتقلت به تعاملات الله مع البشر من أفراد إلى شعب كبير أراده الله أن يكون خاصته.
وكُلَّمَا تَأَمَّلْنَا شخصية موسى؛ نجد العديد من الميزات التى فاق غيره فيها, حتى أنه قد تشابَه معَ رب المجد يسوع المسيح.
ورغم كل هذا ومانعرفه عن مَلَكَات موسى الشخصية, وإمكانياته القيادية, وكل ما اكتسبه من المهارات والعلوم الفرعونية لمدة أربعين سنة, مع ما اكتسبه من حياة البرية لمدة أربعين سنة أخرى, لم يكن موسى فى حقيقة الأمر هو الفاعل الحقيقى فى جميع هذه العظائم, بل كان مُنَفِّذاً لما يراه ويصنعه الله, وكان أداةً طيِّعَة فى يد الله القدير الذى أحسن إلى شعبه كل هذا الإحسان, والذى أعطى شخصية موسى هذه الصفات الرائعة, والذى أجرى كل الخوارق التى تمت مع هذا الشعب.
فلم تكن براعة موسى قادرة على إلحاق الضربات بفرعون وحاشيته وأتباعه, ولا على إهلاك أبكار المصريين دون العبرانيين, كما لم تكن بإمكانها شق البحر بواسطة الريح التى أزاحت المياه إلى الجانبين وجففت قاع البحر لإيجاد طريق للسير حتى الضفة الأخرى, ولم تكن المهارات التدبيرية قادرة على جذب أسراب السلوى وتوفيرها بمتناول اليد ولا توفير المن ذلك الطعام الفريد المتساقط يومياً رمزاً لخبز الحياة, ولا خروج ماء من الصخرة للشراب, ولا انتصار جماعة من شراذم العبرانيين الهزيلة الغير مدربة على جيوش شرسة دموية تحترف القتال وتفتخر بشراستها فتفتك بل تمحو أعداءَها تماماً عند أول التحام بهم.
لقد عرف موسى كيف يطيع الرب وكيف يضع كل القدرات والإمكانات عند أقدام الرب, فجعل منه ذلك الرجل الأسطورة الذى لا يمكن تخيل الأمة العبرية بدونه, ولا يمكن تصوُّر وجود تاريخ لليهود بدونه.
إن شخصية بهذا القدر لا يمكن أن يستوعبها عمل ضئيل كهذا البحث الدراسى المحدود, لأن موسى الذى وضع نفسه بين يدى الله طائعاً تابعاً لما يأمره به, قد رَفَّعَه الله وأجَلَّ قدره وجعله علامة فى تاريخ العلاقة بين الله والإنسان. فموسى شخصية أكثر من عظيمة بكل المقاييس.
|